متفقـــــون .. ولكن !!


 متفقون .. ولكن !!
بقلم / موسى إسماعيل الفقي
    لا يشك أي مصري مخلص أن ثورة 25 يناير نفخت روح الأمل في نفوسنا . بعدما أفلت من بين أيدينا مرات ومرات ، فكلما كانت تحاصرنا مهرجانات المزورين والنصابين ( نجوم «الأونطة » و « بتوع الثلاث ورقات ») والذين هان عليهم الوطن فباعوا بعضه وخربوا البقية .. كنا نصرخ : أليس هناك من سبيل لتغيير قريب ، وحق علينا - الآن وغداً - تجاه كل من هب ثائرا ؛ لكل نجوم نهضتنا ومصابيح وعينا الذين خرجوا دفاعا عن الحرية والكرامة أن نقف لهم احتراماً ويقف معي كل المخلصين لهذا الوطن ، فشكرا شكرا لمصابيح الوطن في مواجهة الدجالين .. أتذكر هنا قول بيرم التونسي رحمه الله : (( النقد رسالة النبوة ، ولولا النقد لطغى الباطلُ على الحق ، ولامتطى الأراذلُ ظهورَ الأفاضل ، وبقدر ما يرتفع صوتُ الناقد يختفي صوتُ الدجال ، ...
  ولا شك أن الكثيرين منا قبل الثورة 
كانوا يبحثون عن مخرج لما كنا نعاني منه ونرزح تحته ؛ عن وسيلة للتغيير والقضاء على كل أشكال الفساد ، كل منا كان يحلم بنظام لديه أولويات لصالح مستقبل هذا الوطن ، كل منا كان يحلم بتعليم أفضل ومؤسسات تعمل من أجل الوطن والمواطن ، كلنا كان يحلم بالتغيير ، والكثيرون منا كانوا يرددون سرا أو جهرا بأن «التغيير قادم»، وكثيرون كانوا يرون أن الثورة الشعبية هي القادم على الطريق ، والبعض كان يرغب بالتغيير لكنه لم يكن يتوقع الثورة أو ربما كان يستبعدها خوفاً من الفوضى والانفلات الأمني .
   كلنا كنا متفقين على ضرورة التغيير ، متفقون على الهدف وإن اختلفنا على الوسائل المناسبة ؛ كلنا كنا نرى المرض وأعراضه ، ربما نتفق في التشخيص ولكننا نختلف في طريقة العلاج ، حتى هؤلاء الذين ساندوا النظام السابق أو من ساروا في ركابه لم يكونوا جميعاً راضين عن كل ما يفعله ،
     كان من بينهم من يرفض طريقة إدارة النظام السابق للبلاد ؛ وتخبطه السياسي على كل المستويات ، وكثير من قواعده وكوادره الحزبية كانوا إما مغيبين تماما ؛ أو أن ولاءهم للمصالح والمناصب أعماهم عن رؤية الواقع المعاش ؛ وكان لسان حالهم يردد في : «ليس في الإمكان أبدع مما كان» أو «دع الملك للمالك»...«أقام العباد فيما أراد» ؛ وهذا كله جزء من ثقافة مجتمع يردد في صباحاته وأماسيه (اللي يجوز أمي أقول له ياعمي) ، و((اللي له ضهر ما ينضربش على بطنه))... إلى آخر هذا التراث السلبي الذي ورثناه عن الأجداد .
    كان التغيير مطلبا وأملا للكثيرين وإن ضل البعض سبيل الوصول إليه ، وقامت الثورة والتفت حولها جماهير الشعب بكافة أطيافه وفئاته .. لم تشتعل جذوة الثورة بين يوم وليلة ؛ وإنما هيأت لقيامها أجيال سابقة من المفكرين والأدباء والشعراء والفنانين ، كانت ثورة 25 يناير جزءًا من أحلامهم ؛ من أول بيرم التونسي وصلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم وعبد الرحمن الشرقاوي والعقاد والرافعي وغيرهم من مشاعل التنوير .. هؤلاء هم الذين كانوا ينفخون في روح هذا الشعب دفاعا عن العدالة والحرية والكرامة.
vvv
والنخب غائبة أو مُغيبة !!
 
  لكن – و يا للأسف – أن النخب عندنا لم تتفق – بعد - على كلمة سـواء ؛ علاوة على أنها في واقعنا - الآن - لا تملك شيئاً في يديها ، فلا هي - في الغالب - تملك منصباً مؤثراً ، ولا هي موجودة أو مقربة من صناع القرار ، ولسوء طالعنا جميعاً ، أن هذه النخب تمثل الآخر ( العدو ) وليس الشريك بالنسبة للسلطة ؛ كما في البلاد الديمقراطية ، أو في زوايا النسيان الكهفية ( اختارت هي ذلك يأساً بعد دخولها المعترك السياسي في العهد البائد وخسارتها ) ، أو أنها في المتاحف منذ ثلاثين عاما حيث اختاروا لها مكانها المناسب لكي لا تعكر صفوهم وتقض مضاجعهم ؛ لأنهم كانوا في نظر السلطة : حالمين أو دروايش لا تصلح آراؤهم أو طروحاتهم لهذا العصر ، فهي مستبعدة ومهمشة أو مُزايَد عليها ، ويعتبر ذلك خصما من رصيد المخلصين لهذا الوطن ، ولك أن تتابع بعض برامجنا في تليفزيوننا " إعلامنا الوطني " لترى المهازل حين يستضيفون صبية صغاراً في ميدان التحرير بهدف استفزاز الجماهير ؛ وكأن الثوار هم هؤلاء الجهلة الصغار ، فهم يريدون أن يقولوا للناس : هؤلاء من عينة الثوار وهذه طروحاتهم  ..!!
ثانيا : أن هذه النخب لا تملك أن تؤثر في أهلينا ، لأنها لا تملك إعلاما أو قنوات شرعية يجعلها متواصلة معهم ، ولا تملك أن تدعو أو تقيم المؤتمرات ، حتى على مستوى العمل العام تصبح مقيدة ومهددة ومحاصرة وينظر إليها بارتياب - فقط : لأنها سمحت لنفسها أن تفكر وتتأمل ؛ أو لأن بعضها كان قريباً من ذوي السلطان قبل الثورة من أجل تغيير مجتمعها إلى الأفضل وقد عرفت الكثير من تلك التجارب عن قرب ..
ثالثا : أن الأمراض النخبوية : ( الأنانية والتشرذم - ادعاء ملكية المعرفة والحق والقدرة علي تمييز الغث من السمين ..) ، وإن كانت لا تقلل من شأن تلك النخب لو أرادت السلطة وصناع القرار الاستفادة من معارفها وخبراتها وعلومها ، فالاختلاف سنة من سنن الكون ، ، ولن يضر المجتمعَ اختلافُ الآراء وتعددُ وجهاتِ النظر ، ولكن المشكلة ؛ أن النخب في بلادنا غير ممكنة ، فإن مُكنت ، فإن أجل تمكينها قصير جداً ، ولست أدري ، أوراء ذلك عوامل خارجية أم أن الشياطين تلعب في رؤوس الواصلين وأهل الحظوة والثقة والمقربين فيؤلبون عليهم ، والمؤكد أن هذه النخب - المستبعدة عادة - لا تعمل لصالح الكبار ؛ ولذلك لا يقر لها قرار .
vvv
أنا أعترض .. إذن أنا موجود
    لكن ما يدمي في المشهد أن الكل معترض على الكل  ، والكل يعارض الكل .. ليس هناك اتفاق كامل بين اثنين على شيء أبداً ، فإذا رأيت شخصين متفقين فيما بينهما على شيء ، فاعلم أنه اتفاق لا يدوم أكثر من بضعة ساعات ، وسوف تحمل لك الأخبار – عاجلاً - اختلافهما على كل شيء تقريباً !! .. لماذا لأن الكل غاضب من الكل ، ولأن كل فرد يعارض بقية الأفراد ، وسوف تبذل جهداً كبيراً لكي توفق بين اثنين من المصريين ، ثم تكتشف بعد أن تفارقهما أنهما مختلفان تماما على كل شيء
  كنا نحسب أن ثورة يناير قامت لكي تلم الشمل فإذا بها قامت لتزيد الفرقة أكثر مما كانت عليه .. !! وكنا نأمل أن تشتبك الأيدي بعد الثورة بالعمل والانتاج ؛ فإذا بها تشتبك في الميادين بالبغض والكراهية ، وإذا المصريون كلهم يمزق بعضهم بعضاً خلال ما يقرب من عام بعد ثورة معجزة أذهلت العالم .!!
   الإعتراض حق لكل مواطن ، الإعتراض موقف ومبدأ .. لكن الاعتراض- فقط - من أجل الإعتراض لا يصلح لمجتمع يحلم بصناعة مستقبله .. مجتمع يعاني من
مشاكل لا حصر لها .. مجتمع اقتصاده يتهاوى وطاقاته مشلولة ومعطلة .. فهل أصبح شعار ما بعد الثورة : أنا أعترض إذن أنا موجود ؛ أم أنها فترة استثنائية بعد الثورة ، وسوف تهدأ الأمور من أجل مستبقل ورفعة بلدنا العزيز ؟؟.

الإصلاح من أعلى
    لأستاذنا الراحل العالم الدكتور أحمد مستجير ، رحمه الله ، أبحاث في مجال ( زراعة القمح بمياه البحر الأحمر المالحة ؛ وهناك تجارب كثيرة تم تطبيقها على مساحات كبيرة من الأرض ، وأعطت نتائج مذهلة كما ذكر - رحمه الله - في برنامج العاشرة مساء قبل رحيله ) ومراكز البحوث الزراعية في مصر لديها كل هذه الأبحاث والنتائج ، وتم الإعلان عن عزم وزارة الزراعة ؛ زراعة 2.5 مليون فدان على الحدود المصرية السودانية قمحاً(( نسأل الله أن يكون ذلك صحيحاً ..)) ، وتمت مناقشة زراعة أراض سودانية قمحاً قبل أكثر من عام في نفس البرنامج بحضور السفير السوداني بالقاهرة وبعض الخبراء والمستثمرين ، وهناك حديث لبعض الخبراء عن أراض بالساحل الشمالي بها بنية تحتية ومياه وممكن زراعتها بالقمح والبقول ، ورؤوس الأموال موجودة ، وتبقى في كل ذلك الإرادة السياسية حتى يتحول الكلام إلى فعل 
  - قبل عامين تقريبا قال لي أحد العلماء الكبار بهيئة الطاقة الذرية : احنا عندنا إيه ؟؟ فقلت : انتظر منك الإجابة لأنك أدرى وأعرف .. قال : احنا ماعندناش حاجة ، فقلت له : ومن المسئول ؟؟ قال : "كلنا مسئول بشكل أو بآخر ، لكن المسئولية الأكبر تقع على السلطة الأعلى لأنها تملك القرار وتتحمل المسئولية الأكبر  ؛ الإصلاح سهل جداً حينما يأتي بقرار من السلطة الأعلى ، لكن لو جاء من القاعدة يكون مكلفاً جداً ".. نسأل الله أن تفيق قياداتنا من غفلتهم ويضعوا ذلك في حساباتهم مستقبلاً ؛ حفاظا على هذا الوطن .  
 .............................   نشر في مجلة سرس الليان - عدد فبراير 2012 م

0 التعليقات:

إرسال تعليق