بين المظاهر وحمّى الكلام


بين المظاهر وحمّى الكلام

بقلم / موسى إسماعيل الفقي

  قال لي بعض شيوخ القوم : إن فلانا يتعاطى البانجو  ويفتح بيته للحشاشين ، وكدتُ أصدق ، ثم شاء القدر أن أقترب من فلان هذا .. فرأيته شخصاً ملتزماً  يعرف الله ويحافظ على الصلوات وأكبر  معاصيه أن يدخن السيجارة نسأل الله له التوبة من قريب ، وقال آخرون : إن فلاناً  آخر   يفعل الفاحشة وقصوا قصصاً كثيرة عن فسقه وفجوره ؛ ثم اقتربتُ منه ورأيته رجلاً طيبَ القلب مسالماً ودوداً حسن الخلق ، وأكبر معاصيه أنه اجتماعي الطبع  ؛  كثير المزاح في غير فحش  ،
***
    وكثيرا ما أحسنُ الظنَّ بأشخاصٍ ، فيأتيني من يخبرني بشيءٍ مختلفٍ  ،  فيكون ردي : أنا لم أر عليه شيئاً  مما تقول  -  إلى أن يثبت لي خلاف ذلك  وأراه بعيني ،  ولا أنقل  شيئاً من ذلك لأحد (( فكفى بالمرءِ إثماً أن يحدث بكل ما سمع )) ، ولا أقول إلا بيقين ، ولا يكون التصريح إلا  لدرء مفسدة ، أو إذا كان ذلك هو الباب الوحيد لإصلاحه ،
***
     لكن كثيراً من الناس لا شاغل لهم إلا الكلام والكلام وبلا هدف في كثير من الأحيان  ، وكثير من الناس لا عمل لهم إلا الكلام والكلام  وبلا علم في معظمه ،  ومن كثرَ كلامُه قل عملُه ، وهذا الكلام (الدش المفتوح ) يغرق المجتمعات بأساطير من الفحش ، ويصورها على أنها  ملهى ليلي ، والحق أنها ليست كذلك ، فعلينا  أن نحسن الظن بالناس ، فإذا رأينا فحشاً كان الواجب علينا أن نستره ، لأن في ستره نجاة للمجتمع من شيوع الرذيلة ، فإذا لقيت العاصي فتعامى عن معاصيه وبيِّن له أنك لا تراه ، ولعلك حين تمدح العاصي  وتستره ؛ فلربما يكون ذلك دافعاً لإقلاعه عن معصيته ،     
***
ومن أقوال الأستاذ / أنيس منصور  : « لما جاء الفرنسيون بعد حملة نابليون إلى مصر قالوا لبعضهم البعض، يجب أن تتحدثوا إلى العرب كثيراً، فلا شيء يمتعهم سوى الكلام، وسوى النكتة والقفشة والشعر، إنهم يحبون الكلام، يقولونه ويسمعونه، ولا شيء يضايقهم إلا اختصار الكلام !! »  -  ويبدو  أنهم عرفوا  العرب - ونحن منهم -  قوما يتكلمون بلا ضابط ولا رابط ، والكلام بلا علم  إنما هو مفاتيح الإشاعات الرخيصة  ؛ التي تجعل  الحياة جحيماً  ،
***
 فبعض الناس  يدّعون ارتفاع الأسعار  ، فتكون النتيجة أن تتنقل الإشاعة إلى بعض التجار  فيرفعونها بمجرد الإشاعة  ، وبعض الكلام  يدفع  لارتكاب الجرائم  والموبقات ، ولنا في  قول المصطفى صلى الله عليه وسلم  ( رحم الله امرءًا  قال خيرا فغنم  أو سكت فسلم ) السبيلُ القويم .
***
    وعلى الجانب الآخر  ؛  إذا رأيت شخصا بسيطاً  في مظهره ,  متواضعاً في  سمته  ,  فلا  تحسبن أنه رجلٌ غفلٌ  بلا  فلسفة   , حتى وإن  بدا لك أنه كذلك ..  , فليس هناك شخصٌ -  مهما كان مُكوِّنه وطبيعته -  يعيش بلا  فلسفة ؛  وتخطئ حقاً إذا اعتقدتَ أنه يمكن خداعه ، حتى وإن بدا لكَ أنك خدعته  مرةً بعد  مرة  ،  وكلما  اقتربتَ  واقتربتَ -  طالعتك  صورةٌ غير الصورة  , وفكرٌ غير الفكر ؛ ورجلٌ غير الرجل ..
- ومن العجيب أن المجتمع -  دائما -  يحمل على المخدوع ، ولا يحمل على الخادع -  فمن الأجدى أن نعاقب الخادع باعتباره خائنا ، وأن نكرّم المخدوع لحسن نيته  وصدق طويته  ،  إذ  أن  ثقافة لوم  المخدوع باعتباره غبياً  ؛  هي  مكافأة  للخادع باعتباره  ذكياً  ،  وبالتالي هي دعوةٌ - ضمنياً -  لتحول المجتمع  إلى غابة .
***
     ومن الحكايات التراثية في هذا الباب ؛ أن أعرابياً كان يمتطي جواده في الصحراء ، فوجد رجلاً  وسط الصحراء وقد شرد منه جواده ومعه أكله وشربه ، فتوقف الأعرابي وأطعمه وسقاه وأخذه معه على نفس الجواد ، وفي الطريق قال له الرجل ما أسرع حصانك ،  وبعد قليل توقفا وأخذا قسطا من الراحة وتابعا  طريقهما ، وفي الطريق قال الرجل للأعرابي ما أسرع حصاننا وقبل أن يحل الظلام ، قال الرجل ما أسرع حصاني وقد رمى بالأعرابي أرضاً ، وأراد أن يذهب بمفرده ويترك الأعرابي في بطن الصحراء  ، فناده الأعرابي وقال له يا رجل اسمعني قبل أن ترحل  ، فقال الرجل : ماذا تريد ؟؟ -  فقال الأعرابي  : خذ الجواد واذهب لكن لا تقص على أحد  ما فعلت بي -   ذلك من الفساد في الأرض ,  أنا لا أبكي من أجل الحصان الذي اغتصبته  , أنا أخشى أن  يعرف الناس هذا الخبر  فيتناقلونه ،  فيكرهون فعل المعروف .. ولو  وعى اللص هذا الكلام لتراجع عن جريمته  !! 
   - كذلك  فإن الكثير من الأشخاص لا تستطيع أن تحكم عليهم من خلال مظاهرهم , فإن المظاهر كثيرا ما تكون خادعة , فإذا رأيت شخصا أنيقا مظهره ؛ فليس ذلك دلالة على أناقة جوهره , فربما يكون العكس هو الصحيح ؛ ولا يجب أن نصدر أحكامنا بناءً على المظهر الخارجي ؛ بل إن البعض من أهل الأناقة يجعلونها ستاراً  لإخفاء الكثير من الدهاء والمكر خلف صورهم المنمقة .
*****
سرس الليان يوليو 2007

0 التعليقات:

إرسال تعليق