يوميات شارع


يوميات شارع

بقلم / موسى إسماعيل الفقي

       شوارع مدينتنا كأية مدينة ؛ شوارع واسعة ، وأخرى ضيقة لم تعرفها  المدنية بعد ، ومن بينها شارع أمشي به كل صباح يحمل اسم( شارع الخضرا) ، ربما سموْهُ بهذا من باب التفاؤل، وربما  أول من عمرته سيدة اسمها خضرة..  .. وهو شارع طويل كأحلامنا الخائبة ، وعرضه مختلف ، كاختلافنا  وتخلفنا ؛ فبعضه ثمانية أمتار وأحياناً عشرة ، لكن أكثره في الغالب إما خمسة أو ستة ، وذلك بسبب ارتدادات التنظيم المحلية ، وهو شارع مرصوف .. لكن المطباتِ الأهلية والحكومية وأعطال المياه والتليفونات فعلت به الأفاعيل ، وأكوام القمامة والأتربة والأنقاض التي تنتشر على جانبيه في اطمئنان ، كل هذا قليل جداً مقارنة بما يدور به من أحداث ؛ ولذلك فقد  بدأتُ في تسجيل  يومياته أو يومياتي معه :

** الأحد 3 يونية 2007م :
       الثامنة والنصف صباحاً حين مررتُ من الشارع .. السماء صافية إلا  من صياح  بائع السمك أو باعة الخضار  .. رائحة الطعمية تنتشر قريباً من دكانها  على جناح  نسمة ناعمة مصطحبة روائح غير مقبولة  مجهولة المصدر ..،  وصوتُ مدرسٍ خصوصيٍّ أجشُّ يعبر  نافذةً قريبة ...
       والشارع مستسلم لحركة المركبات والمارة ؛ وأطفال وصبية يتسابّون ويلعبون الكرة  ..  وسور مدرسـة " الأندلس" يحتضن القمامة..  يضيق عرض الشاعر حوالي المتر  .. على اليسار سنترال أهلي مفتوح إلا من زجاج نصف مغلق ؛ وعند بابه تقف فتاة جميلة تحادث فتى وسيماً  يقف في مواجهتها على يمين الشارع ، بجوار الفتى يستقر " كولدير " تتقاطر منه مياه وتسيل بطول الشارع  .. أسفل الكولدير أكوام من القمامة يتنافس عليها قطط وكلاب وذباب .. في منتصف الشارع تقريباً بين الفتي والفتاة يتمدد فأرٌ ضخمٌ ميت - ربما منذ يومين أو ثلاثة أو أكثر ..- فقد عرف الذباب طريقه إليه .. لكن ذلك لم يؤثر على مشاهد الغرام التي لم تزل في أولها.. 

** الإثنين 4 يونية 2007م :
        الثامنة والنصف صباحاً .. رائحة عفنة تنتشر .. السنترال يفتح أبوابه مبكراً .. الفتى والفتاة عادا إلى موقعهما تقريباً ، والفأر الممدد بينهما مازال في مكانه .. فارق بسيط جداً : هو الزيادة المكثفة للذباب وحشرات أخرى.. كلماتُ الغرام العابرة فوق الذباب ذهاباً وإياباً كلما احتدمت ؛ ازداد الذباب طنيناً وهسيساً ..  وحلق طيفٌ من الشوق والشاعرية .. تحاصرني التكاتك .. أقرر الهرب فأرتطم بمطب أهلي غليظ  ... نافذة المدرس مغلقةٌ وعليها آثار تعذيبٍ ودماءٌ .. وصوت لراديو يعيد حديثاً دينياً عن الجهاد .. وقصابٌ يعلق اللحم  فيذكرني بالـ ....... ونسيم الصباح يحمل غازات  الفأر المنبطح والذباب الكثيف والقطط الجربى التي تلعق القمامة ، وماء الكولدير الذي يسيل في الشارع ، وسيل الغرام الذي فاض عن آخره ..

**الثلاثاء 5 يونية 2007م :
       التاسعة صباحاً.. روائح مختلطة لكن العفن يتفوق عليها .. نسمات ساخنة  تمر.. وغبار التكاتك والمارة والعربات.. السنترال وبابه الزجاجي مفتوح..  الفتاة وفوق وجهها الألوان الحادة ، والفتى يقطر بالدُّهن شعرُه ويلمع..  والفأر المنبطح والذباب المتزايد في مكانه ، والقطط والكلاب التي تلعق في القمامة أسفل الكولدير  .. ونافذة المدرس تتحدث عن انتصاراتنا !! والأولاد يصدقون !!.. وشيخ الراديو يدعو على اليهود والأمريكان.. وبرق الغرام يزداد احتكاكاً والتهاباً ، فيعبر الفتى إلى الفتاة مقتحماً غابة الذباب المؤتمِر ، فيثور الذباب في الجو محدثاً عاصفة ًفي الفضاء من الطنين والهسيس ، والفتى  لا يعبأ بهذه العواصف  الذبابية السخيفة ، ويقترب من الفتاة ليكملا ما بدآه ؛ فيتضاحكان ويتهارشان ويتغامزان ويتفاحشان ؛ تذوب الضحكات والمهارشات في مشهد العواصف الذبابية والفأر المبقور ، والقطط والكلاب والقمامة ورائحة العفن ، والكولدير الذي يسيل فيغمر الشارع بالطين . 
** الأربعاء 6 يونية 2007م :
                                      ......... ، لم يتغير شيءٌ بعد ..
استدراك هام :
    **  لم أجد ما أعبر به عن حجم الكوارث في حياتنا ،  سوى هذا  السـيناريو الفج ، لكنّ ما يرتكبه بعضنا من حماقات لهو أكثر فجاجة وأشد ، فأرجوكم  لا تسامحوني ؛  ولكن ... غيروا هذا الواقع  قبل فوات الأوان.
نشر بمجلة سرس الليان عدد يونية 2007

0 التعليقات:

إرسال تعليق