مع الأصدقاء

( إلى أصدقائي جميعهم .. بعضاً من نزف الوجدان والضمير الموجوع ..)

إذا عاملتَ الناس بمثالية ، وكنتَ عاطفياً رقيقَ المشاعر نحوهم ، تَشككَ الناسُ في تصرفاتك ؛ وارتابوا في كل ما تفعل ؛ وظنوا بك الظنون - فالناس لم يعتادوا في أيامنا مثل هذه الأخلاقيات الفاضلة !!

فإذا توددتَ إلى أحدهم راغباً في أخوة حقيقية وبذلتَ له الغالي والثمينَ في سبيل ذلك وأكرمته ؛ حسبَ أنك تبتغي شيئاً مما في يديه ، أو أنكَ تريد أن تختلس منه شيئاً ، وبدت نظراته إليك توجساً ورهبةً .!! وأبو نواس هو القائل :

عدوك من صديقك مستفادٌ :: فلا تستكثرن من الصحابِ .. ؟؟

ومن عجبٍ أن تصبح العداوةُ مأمونةَ العواقب ، وتصبح الصداقةُ وخيمةَ العواقب !! ، حتى حزنتُ لقول الشاعر :

وما ساءني إلا الذين عرفتُهم :: جزى اللهُ عني كلَّ مَنْ لستُ أعرفُ !! أو قول بشار بن برد :

أنتَ في معشر إذا غبتَ عنهم :: جعلوا كل ما يزينك شينا

وإذا مارأوك قالوا جميعا:: أنتَ من أحسن البرايا علينا

وإذا كان حال الصداقة هكذا ؛ فإن المراوحة بين الصديق والعدو يصبح حال الكثيرين من الناس بغير قرار ، وتلك حالٌ أقرب للتردي والانهيار .. وشاعرنا أبو الطيب واجه ذلك ؛ فاضطر للذهاب إلى كافور بعد ماوقع بينه وبين سيف الدولة من جفوةٍ :

كفى بك داءً أن ترى الموتَ شافيا :: وحسبُ المنايا أن يكنَّ أمــانيا

(وليت الصديق يعلم ماذا يفعل بصديقه حين يقسو عليه ؛ فيلجئه إلى أعدائه ! )

ومما يؤسف له أن بعض أصدقائنا كان يقول : " إن الناس تحييك ويخيل إليكَ أنها تطلب ثمنَ التحية " ؛ وهذا دليلٌ على الانعزالية التي توجه العقل في بلادنا وتلوِّن السلوك الاجتماعي ! - وأستطيع أن أعترف أنّ دافعي للقيام بإكرام الفقراء رغم معسرتي ؛ هو اطلاعي على قسوة بخل أصدقائنا من الأثرياء .

ومما يجعل الإنسان يتجرّع كئوس الحسراتِ ويدفعه إلى العزلة ؛ أن بعض الناس يغلقون أبوابهم دونكَ ، وهم يجهلون أنك ترغب صدقَ مودتهم ، وأنك ترجو ذهبَ قلوبهم لا ذهب جيوبهم ، وكان شيخنا الراحل حسين شرشر يردد :" ذهب الناس وبقي النسناس" ..

وإذا قلتَ : إن الصداقةَ من الصدق ؛ فلن تحصل على صداقة أبداً ، ولك أن تتوقع من ( الصديق !) كل ما لذ وطاب من الفجائع والفظائع ، ولما كانت أم كلثوم تغني قولَ ابن الفارض :

غيري على السلوان قادر :: وسواي في العشاق غادر

لي في الغرام سريرةٌ :: والله أعلم بالســــرائر ؛

فكنتُ أبكي طرباً لقناعتي أن الصداقةَ لونٌ من ألوان الغرام ، وقد خبتُ وخاب مسعاي ولم أعثر على شيءٍ من هذا الغرام !!..

والشاعر القديم قال :

( إن أخاك الحقَّ من كان معك :: ومن يضرُّ نفسه لينفعك :: ومن إذا ريبُ الزمان صدعك :: شتتَ فيك شمله ليجمعك ) ، ولم أجد ذلك إلا نادراً ؛ ولكنها كندرة الكبريت الأحمر ، كما تقول العرب ..

ومن تجاربي أني اقترضت مرةً من صديقٍ فلم يصبر على عسرتي ، ثم طاردني وفضحني لدى ( أصدقائي الأبرار ) الذين لم يستحوا ... !!؟؟ ، وهم جميعاً يعلمون أني جادٌ في السداد ، وأني ليس من أخلاقي المماطلة ..

وفي تراثنا العربي - الذي يحفظه أصدقاؤنا عن ظهر قلب - تلالٌ من الأحاديث وركام من المرويات عن الجود والأجواد ولكنها مجرد أحاديث على الورق - فقط - لا نرى منها شيئا في واقعنا المعاصر ، لكن هذا التراث أيضاً مليءٌ بعقلية نفعية ؛ دافعة للعزلة والبخل :

رأيتُ الناس قد ذهبوا :: إلى من عنده الذهبُ - ومن لا عنــــده ذهب :: فعنه الناس قد ذهبوا رأيتُ الناس منفضة :: إلى من عنده الفضـــة - ومن لا عنــــده فضــة :: فعنه الناس منفضــة

رأيتُ الناس قد مالوا :: إلى من عنده المالُ - ومن لا عنــــده المال :: فعنه الناس قد مالــوا ...

لكنه تراث ينغص ويكدر أصحاب المشاعر الإنسانية الرقيقة ، ويدعوهم إلى العزلة .. ،

وحين نصف هذا الفكر بأنه واقعي فإننا نظلم مجتمعاتنا العربية والإسلامية وننفي عنها الحضارة جملة وتفصيلاً ، لأن هذا الفكر لو قدر له الشيوع والانتشار ؛ لكان أول مسمار في نعش وجودنا .. 

0 التعليقات:

إرسال تعليق