بقـايــا

موسى إسماعيل الفقي
        إنه الصباح  .. إنه الويل  ..  فليحمل أدواته وليخرج إلي عمله , لقد جهز نفسه لذلك جيداً ..؛  شكل  ملبسـه  ,  وأدواته الكئيبة  ,  وسحنته المحنطة ليست في حاجة إلي أي تجهيز  ,  إنها جاهزة  ومستعدة علي الدوام ,  فكأنه شخص ميتٌ جيء به من قبره , فوجهه المسود في اصفرار نحاسي , وشعره الأشعث المغبر كالعائد من سفر طويل , وشعر لحيته الأشبه  بنجيلة أرض جافة من كثرة ما وطأتها الأرجل ,  وعينان غائرتان صغيرتان وكأنهما عينا بومة عجوز , وشفتان رفيعتان كشفرتين علي فم ٍأشبه بكهفٍ مظلم  ..  وكعادته غادر زوجه النائمة بجوار أولاده الصغار بعدما أرسل إليها نظرة  سخط وازدراء , فلولاها هي والأولاد ما تحمل شيئا ولا خرج إلي عمل ,.. 

     أذن لصلاة الجمعة , وصعد الخطيب المنبر , فجرجر عربته التي يجمع فيها القمامة  وتركها قريبا من باب المسجد فنهره أحد القادمين : خذ هذه العربة بعيدا عن هنا .. فدفع العربة بعيدا بعدما  حدجه  بنظرة مغتاظا وهو يكظم غضبه ويكز علي أنيابه .. إن الصلاة هي الشيء الوحيد الذي يهدئ  من أعصابه , وهي التي تعينه علي الهروب لبعض الوقت من وجوه الملاحظين الكالحة .. وجد الزحام علي دورات المياه والميضأة فأخروه وتقدموا , وهو لا يملك أن يبدي أدنى اعتراض , ولكنه لم يمنع نفسه من حديث داخلي أصبح مدمناً  له طيلة الوقت , فكلما تجاوزه أحدهم حدجه بنظرة وراح يشتم ..  يا غجر .. يا منافقين  .. ,  وأخيرا وبعد جهد جهيد توضأ وهاهو يحاول أن يبحث عن مكان , وكلما حاول أن يتقدم متجاوزا الصفوف الأخيرة , فاجأه أحد الجالسين بنظرة متعجرفة , أعادت رجله إلي موضعها وحالت بينه وبين أن يتطلع للأمام , كم من مرةٍ تمنى أن يصلي في الصفوف الأولي , لكن كل محاولاته وكل تمنياته لم تنجح , بل لم تكد تبلغ مبلغها إلا وعادت حيث كانت ..  ولم يجد بدا من الجلوس مكانه .. نظر حوله وتحت قدميه , فوجد الحصير البالي والمبلول من كثرة ما وطأته أقدام المتوضئين ,

0 التعليقات:

إرسال تعليق