صحتنا بين الأمس واليوم

صحتنا بين الأمس واليوم
بقلم /  موسى إسماعيل الفقي
   - لا يُذكر الطبيبُ إلا  ويُذكر المرض ، ولا نشعر بحاجتنا إلى الطبيب إلا حين يداهم أحدَنا المرضُ ( وقانا الله وإياكم [ شر الأمراض ] فبعضها  نافع للجسم ومحفز للمناعة ) ، 
ولعل معظمنا يقاوم المرض بكثير من الصبر وبعض المسكنات اتقاء لفاتورتي الطبيب والدواء ، وربما – أحياناً – لقناعة بعضنا بأن الدواء الذي يصفه الطبيب - إن لم يكتب بحكمة - فقد يضر أكثر مما ينفع ، ويعتقد البعض أن قليلَ الدواء خيرٌ من كثيرِه ، وأن بسيطَ الأدوية  خيرٌ من مركبِِها، وكان أبي ( رحمه الله ) صاحب فلسفة في ذلك ، فكان يتعاطى أقلَّ

من الجرعات الموصوفة ؛ وخاصة إذا كانت من المسكنات ( علماً بأن معظم الدواء في عصرنا هو عبارة عن مسكنات للألم وليست علاجاً )؛ وقد أثبت الطب البديل حديثاً صواب هذه الأفكار ونجاعتها ، والجسم لديه القدرة على إفراز الأندروفينات المسكنة للألم إذا أعطي الفرصة لذلك ، ويساعد المشي أو الاستحمام بليفة خشنة في إفراز الاندروفينات ،
***
وأمير الشعراء شوقي يقول : ( ... وأخف من بعض الدواء الداءُ ! ) ، وكان أبي يعتقد أن الطبيب الذي يصف أصنافاً عديدة من الأدوية هو الأقل خبرة وعلماً ..، وكان يداوي نفسه بالليمون والثوم  ؛ وأعشاب أخرى بسيطة كالعرق سوس والزنجبيل والينسون وبعض المسهلات كـ « شربة الملح الإنجليزي » وكان يحرص على شراء زيت الزيتون وزيت السمسم وزيت بذرة الكتان من منوف ويجعلها للتداوي ، وقد عرفت أهمية كل ذلك في العلاج والوقاية فيما بعد ؛  وما يعرف بـ « الطب البديل »  اليوم ؛ هو جزء يسير من طب الأجداد وتراثهم ، والحقيقة أن الحياة الجافة والخشنة أفضل للصحة من الحياة المترفة الناعمة ، وفي الحديث"اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم"، ومن دراسة لعالم فرنسي : ( إن غذاء الفلاح المصري غذاء متوازن جداً ، وهو عبارة عن الخبز المخلوط  والجبن القديم والسريس والشاي الثقيل ) ، ولا ننكر أن السلوك الغذائي مسئول عما حل بالصحة من انتكاسات خطيرة .
***
   وللطبيب مكانة مقدسة في الثقافة العربية ؛ لارتباطه بصحة الإنسان ، فقد كان الطب مهنة الخواص من أهل العلم والفلسفة ، وكان الطبيب عند العربي هو «الحكيم» ، أما في زماننا فقد ارتبط بالمجموع الذي  يحصل عليه طالب الثانوية دون النظر في استعداده وملكاته وميوله لتعلم الطب، فليس كل من حصل على مجموع يصلح أن يكون طبيباً ، ولكنها الوجاهة الاجتماعية ؛ فلقب « دكتور» لدى العائلة والقبيلة له وجاهته الاجتماعية وسلطاته الأدبية الزاعقة ، ويعد هذا خصماً من رصيد مهنة الطب وليس إضافة ، والسينما  في زمن الانفتاح عالجت شخصية الطبيب ، فقدمته في بعض الأحيان في صورة رجل أعمال « بزنس » ، وقد تحول الطب  في كثير من دول العالم الثالث إلى « بزنس »  أو وسيلة  للتجارة بالمرض ، ودخلت شركات الدواء العالمية على الخط  فزادت الأمر سوءًا ، وضاعت بينهما دماء الضحايا .. ،
***
 في فيلم  « بحب السيما»  يقول بطل الفيلم لنفسه :( طول عمري بكره الدكاترة ، لأنهم بيتحكموا فينا وف مصالحنا بحجة إنهم عارفين مصلحتنا أكتر منا ) ، وقبل نصف قرن تقريبا ، نرى نفس المعنى يتردد على لسان « عبد السلام النابلسي» في أحد أفلامه في لهجة تتسم بالحدة : (( دكتور .. دكتاتور )) ولا أظن أن هذه الكلمات كتبت بعبثية بقصد الإضحاك ، ولكنها تعبر عن واقع لمهنة تدخلت في حياتنا أكثر من اللازم ، فالأطباء دائما يبالغون في تقديم الكثير من النصائح والمضادات والمسكنات لمرضاهم , وأكثرها لا يسمن ولا يغني من جهل ، وكثير من نصائح اليوم تكشف الأبحاث أضراره غداً !! .. وفي الإعلام يتكلمون كثيراً عن التقدم العلمي والبحث العلمي ، ولكن في نفس الوقت ، إذا كان ذلك حقيقة ، فها هو الواقع من حولنا يتكلم بصدق ، فهاهي  صحة الإنسان ، وهاهي الأمراض المزمنة والأدوية الحديثة تستنزف اقتصاد العالم الثالث ، ورغم الأدوية المتطورة والتقدم العلمي المزعوم تبدو الصورة شديدة القتامة
***
  نعم .. إن كبسولة واحدة اليوم تستطيع أن تحقق المعجزات ، لكن لا يمكن أن ننكر أنها تدمر حيوات أخرى ؛ وتترك آثاراً سيئة لا يمكن تجاهلها وتطعن النظام الهرموني في الصميم بتركيبها الكيميائي الذي يصلح عضوا ليدمر أعضاء أخرى ،  ودعك من هذا الهراء الذي يخرج علينا كل فترة مدعياً : زيادة متوسط عمر الإنسان في أيامنا ، فقد سمعنا قديماً عن المعمرين من أجدادنا الذين بلغوا القرن وتجاوزوه ، يوم لم يكن هناك« هذا التقدم الطبي » ..، وقد عاش جدي ( رحمه الله) تسعين عاماً صحيحا معافى وعيت منها عشر سنوات  ، ورأيته مرة يجري فكأنه ابن الخمسين .. !
***
   ورغم  " أن الطب قد تطور في كثير من ميادينه وقدم الكثير من الأدوية والطرق العلاجية الحديثة ، لكن علينا أن لا تعمينا نشوة الظفر والتقدم عن محاذير الأدوية الكيماوية الحديثة .." كما يقول بعض مشاهير الأطباء في أيامنا . كذلك فإن إخفاقات الطب الحديث في علاج الأمراض المزمنة حولت الأنظار إلى الوسائل الأخرى ..
   ودراسة الطب تضر صاحبها أكثر مما تضر سواه ، وتجعل الطبيب نهب أوهام المرض ووساوس الجراثيم ، فيصاب الطبيب بالمرض من كثرة التعامل مع المرضى ، لأنه يتداول المرض في كل شيء في حياته ، وحين يمرض الطبيب لا يبدي ذلك لأحد ، فإذا سئل ادعى  الإرهاق في العمل - وقد يكون بعض من ذلك صحيحاً ، ولكن أكثره يكون حرصاً منه أن يبدو للناس صحيحاً معافىً  ؛ حتى يثقوا في علمه ، ثم  إذا تداوى هو ، تخير من الدواء أجود مما يصفه لمرضاه ، وأقله سبباً لأعراض جانبية .   
***
فإذا كان لابد أن يذهب الطبيب المريض لطبيب آخر ، اختار أبعدهم عن الإقليم الذي يسكنه وأقدرهم على تشخيص المرض وأشهرهم في اختصاص علته ، ولكن هل تراه يفعل ذلك مع مريض جاءه بنفس علته التي شكا بها ،  فيقول له : اذهب إلى الطبيب الفلاني ، فهو أقدر على كتابة الدواء المناسب لحالتك أكثر مني ، أم تراه يتصدى للمريض مخافة أن يفقد قيمة الكشف ووجاهته العلمية .. ، ثم يكتب له الدواء بالبركة مع ( التمنيات ) بالشفاء ، وهو وحظه !! ؟؟  
نشر بمجلة سرس الليان بعدد سبتمبر 2008م

0 التعليقات:

إرسال تعليق