تجربتي مع المعرفة 1/3

 تجربتي مع المعرفة 1/3
بقلم / موسى إسماعيل الفقي

منذ نعومة أظفاري عشقتُ الأدب , ثم كتبتُ الشعر , وأثناء ذلك وبعده ؛ شرعتُ في تكوين مكتبة أدبية , ثم توسعتُ فيها حتى أصبحتْ تذخر بكل ألوان المعرفة ,    وتوسعتْ حتى شملتْ معظم تراثنا العربي والإسلامي , فقد كنت مجنونا باقتناء الكتب , وكان أقراني يعجبون لذلك أشد العجب , فلم يعرفوا واحدا - برأيهم - يعشق الكتب ويقضي وقته معها كما أفعل , وأذكر أني بعتُ أحدَهم قميصاً جديداً  لديّ ,    من أجل شراء كتاب , وكنتُ - حينئذ - غلاما لم أتجاوز الخامسة عشرة  من العمر, 

 
 وأذكر أني قرأتُ في تلك الفترة من طفولتي وبعدها ؛  الأدبَ العربي من الجاهليين حتى المعاصرين , ثم كان لي مجموعة من الدراسات والقصائد نُشرَتْ في الكثير من الدوريات العربية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي , ثم أصدرتُ  ديوانَ شعري الأول ( علامات تعجب ) ،

     ثم شاء القدر أن أسافر إلى عَمان في العام 1985 وأقضي بها عشر سنوات في عمل  دؤوب, تعرفت خلالها  إلى كثير من الثقافات , ثم كان لي في تلك الفترة تجارب كثيرة ؛ أهمها تجربتي مع المرض , وهي تجربة تستحق أن تُجمع في كتاب , لأنها تجربة غنية بالكثير من المعارف والخبرات , حيث استمرت ما يقارب العشرين عاما ؛ 

 وفحواها - باختصار شديد - أنني كنت أتردد بين الحين والآخر على الأطباء أشكو من ألم ما , أو التهاب ما , أو سوء هضم .. , وكانت مشاكلي الصحية تتفاقم يوما بعد يوم ، فلا أجد لدى الأطباء دواءً شافيا لآلامي , أو جوابا كافياً لاستفساراتي ، وكنتُ أشعر - أحيانا - أن حديثي مع البعض منهم يُقابل باستخفاف , وقد شعرتُ - كذلك - أنهم يهربون من الإجابة عن أسئلة كثيرة أو ربما ليس لديهم وقت لذلك ,

أو أنهم يبخلون بالمعلومة , أو ربما يجهلون بعض ما أطرح بين أيديهم  من تساؤلات , وقد اكتشفتُ بعد ذلك ؛ أن الطبيب إذا لم يصل إلى أصل علة مريضه , أرجع الداء لأسباب نفسية , وكثيرا ما أشار بعضهم بذلك عليّ , وكان من عجبي ؛ أنني ما ذهبتُ مرة إلى أحد من الأطباء وقال لي - مثلاً -: إن  ذلك ليس من اختصاصه , فكلهم مختصون فيما أشكو !! , ولكن دون جدوى , وقد أدى ذلك في كثير من الأحيان إلى أدوية تدمر الصحة ولا تعالج المرض ــ وليس بالضرورة أن كل الأطباء كذلك،

    فمنهم الكثيرون أصحاب خبرة وعلم ، لكن الظروف المادية لكثير من الناس وأنا واحد منهم ، لا تسمح بالذهاب إلى أمثال أولئك الأطباء , أو القيام بفحوصات مكلفة جداً يطلبونها أحيانا ــ  وكأني قـدِّر لي أن أبحث عن دوائي بنفسي , وأن أحاول بنفسي أن أفهم طلاسم هذا الجسد , أو كأني قدر لي أن أسلك طريقا لم أكن لأسلكه لولا المرض , فقد دفعني المرض إلى قراءات في علوم جديدة عليّ , لم أكن أوليها اهتماما قبل ذلك - فقد كنت أعشق الأدب وأكتب الشعر -  ومن هنا تكونتْ خبرتي بما يمكن أن أسميه ( فن  ترويض الجسد ) ــ

   رغم أن الطب الحديث له إسهاماته التى لا تنكر , فهو جزء من حضارة لا يمكن إلغاؤها هكذا ببساطة , ورغم ما لبعض شركات الدواء العالمية من أهداف واستراتيجيات تناقض هذه القيم وتعاديها ؛ وذلك باعتراف علماء عالميين بارزين في منظمة الصحة العالمية وفي سواها ــ وبالفعل بدأتُ في رحلة طويلة أقرأ في موسوعات طبية مختلفة , فقرأت "دليل ماكميلان"[ موسوعة صحة العائلة] وقرأت مجلدات في طب الغذاء وطب الأعشاب لأساتذة هذا المجال من أمثال " د . جايلورد هاوزر" و " د. روبير ماسون " وهما مدرستان عالميتان في هذا الجانب ,  

    وقرأت د. عبد الباسط السيد وتعرفتُ إلى جهوده في فهم الطب النبوي ؛ إضافة إلى قراءات أخرى مختلفة للطب النبوي لعلماء كثيرين , وإضافة إلى التراث العربي والإسلامي في هذا الجانب ,  وقرأت للدكتور/ جميل قدسي الدويك , وجهوده في طب الغذاء , حيث اعتمد على دراسات عالمية ؛ إضافة إلى اجتهاداته في الوقوف على أهمية الغذاء القرآني , وفهم الآيات في سياقها ، واستنباط معاني جديدة في التداوي بالغذاء والنبات ؛ بُنيت علي ما توصل إليه علماء  الإعجاز العلمي والعددي لآيات القرآن الكريم ,

     ثم اطلعت علي مجالات الطب البديل وهي كثيرة , وقرأتُ أساتذة هذا العلم , وكنتُ قد بدأت تطبيق بعضاً مما تعلمت من كل ذلك علي نفسي , وكانت النتائج جيدة , وانتهى كثير من آلامي العديدة   وكما يقول المثل (( اسأل مجرب , ولا تسأل طبيب )) وخرجت من هذه التجربة بخبرات كثيرة ,  وكنتُ قد قرأتُ عن الحجامة في التراث  الإسلامي وتعرفت إلى آلية عملها , لكنني لم أفكر مرة أن أجربها , وتصادف أن التقيت أحد الشباب الذين يمارسون الحجامة , ودخلت معه في حوار , اكتشفت من خلاله أن الأمر يحتاج إلى التوسع , فلم أقنع بما سمعته منه , وبدأت منذ ذلك الوقت أبحث عن ضالتي , وكنت أعمل في ذلك الاتجاه بعزيمة وصبر ,

     إلى أن أصبحتُ ــ  بعد البحث وبما لديّ من رصيد معرفيٍ ضخم ؛  في الأمراض وأعراضها وأسبابها , ومبادئ التشريح , وفي طب الغذاء والأعشاب , والسلوكيات الغذائية وسواها من السلوكيات التي تكون سببا لعلل مختلفة ومثل بعض أساليب خلط الطعام وطهيه ــ أصبحت أفهم الحجامة , واطلعت أثناء ذلك وقبله على كل  مدارس الحجامة , قديمها وحديثها , ابتداءً من ابن سينا  , والزهراوي , وابن القف الكركي , وكانت قراءاتي كلها  تهتم بعقد المقارنات بين  المدارس  القديمة والحديثة ,

    فبدأتُ أبحث عن مدى الاستفادة من المدارس القديمة ,  ثم تعرفت في مصر إلى الأستاذ/ أحمد حفني واطلعت على جهوده واستمعت إلى محاضراته، وعرفت أنه أخذ بعضاً مما أسس في الحجامة عن المدرسة الألمانية ، وكنت قبل ذلك قد قرأت العالم السوري الأستاذ / محمد أمين شيخو , وقرأت كتابه "الدواء العجيب" , ثم  كانت  لي بعض الملاحظات على منهج المدرسة السورية في الحجامة..

 , غير أن المدرسة السورية لا تُنكر إسهاماتها في هذا المجال ؛ حيث قام بعض الأطباء في سوريا بتسجيل  الكثير من الملاحظات علي مرضاهم , ومن خلال الأبحاث السريرية والتحاليل المعملية التى  كانت مُعينا لآخرين في هذا المجال ، ثم قرأت ترجمات الطبيب الألماني " جوهان آبيل"   ,  وكانت لي معه وقفات طويلة ، وأظن أنه من أفضل الباحثين في هذا المجال , لكن مما يؤسف له - أن ترجمات هذا العالم لم تُقرأ بعناية ,

    ولو أنها قُرأتْ بعناية, لزادت الفوائد المرجوة من الحجامة , وللأسف .. فإن الذين قاموا بجهود الترجمة لم يقرأوها  كما يجب أن تُقرأ ، ثم اطلعتُ علي جهودٍ  لبعض الأطباء مثل : د. هاني الغزاوي وله إسهامات جيدة في هذا المجال ,  د . هيلينا عبد الله  ( الماليزية )،  والأستاذ/ شهاب البدري يس ، وله جهود طيبة ، وكتابات  شتى  لمجموعة

    من المجتهدين ؛ معظمها   يعتمد على منهج  النقل  .. وخلال ممارستي للحجامة على نفسي , بدأت في تسجيل ملاحظاتي بدقة , واكتشفتُ الكثير من الفوائد من خلال القراءة الواعية ودقة الملاحظة ,

وأكاد أجزم بأن عملية القراءة  ليست سهلة وتحتاج إلى جهد وخبرة , كان - بفضل الله تعالى - لديَّ منها رصيد عظيم ,

 فالكثير ممن يتعلمون الحجامة يعتمدون علي القشور المنشورة هنا وهناك ؛ هذه المعلومات القشرية لا تكفي لتعلم الحجامة , بل إنها لا تؤدي في كثير من الأحيان إلى الشفاء , وإن الأمر يحتاج إلى مراجعة كل ما كتب عن الحجامة وتقنينه , وفهم ما يمكن أن أسميه :  بـ ( فلسفة علم الحجامة )  

 لأن معظم  من يتعلمون الحجامة ، ينقلون عن تلك الكتب التي تقدم طروحاً عشوائية في معظم الأحيان , والتي يغلب على كتّابها النقل بغير وعي ، وبغير دراية تؤهل لذلك ــ وقد قال الشاعر قديما :

ولم أر في عيوب الناس عيباً ..  كنقص القادرين علي التمام  ــ

وقد قال أهل العلم :"إنما أفسد الناس نصف متكلم ونصف فقيه ونصف نحوي ونصف طبيب"  ؛ وأضيف إليها نصف معلم ونصف مهندس .. والكثير من كل هؤلاء ، ليس لديه الصبر أو القدرة على البحث ، ولأن كثيراً  مما كُتب ، تم الخلط  فيه ، حتى لدرجة أن بعضهم ، نقل عن مواقع الإبر الصينية بشكل عشوائي ، وهذا النقل يؤدي - في بعض الأحيان -

إلى سوء  فهم, لأن الذين يقرأون هذه الكتب يأخذون ما بها علي أنه من المسلمات , وذلك من العيوب وليس من الحكمة في شيء ,  والحكمة هي أصل الطب ، 

 وحين ندافع عن الطب البديل كعلم له مدارسه وله نظرياته  , فليس ذلك معناه إلغاء الطب الحديث أو إقصاؤه أو التقليل من أهميته , فالطب الحديث جزء من إبداع الحضارة الإنسانية وتراثها ,  قام على جهود وإسهامات لا يمكن أن ينكرها عاقل في عالم اليوم , وإن الطب البديل بكل أنواعه ؛ جزءٌ من هذا التراث الخالد ؛  وأصل من أصول الطب القديم ، ولا يمكن لأحد أن يدعي أننا استغنينا 
أو نستطيع أن نستغني بالطب البديل عن الطب الحديث كلية, وقد نستغني في علاج بعض الأمراض عن الطب البديل  والطب الحديث معا , بتعديل سلوكيات غذائية خاطئة ، أو إعطاء المريض عشبا بسيطا أو غذاء معينا بجرعات معينة .. وقد نحتاج في علاج بعض الأمراض إلى ذلك كله في آن واحد، وهذا وذاك يقرره الطبيب المختص ، مع ضرورة التأكيد على أن منجزات الحضارة على اختلافها  تتكامل ولا تتقاتل ؛ تتحاور ولا تتناحر.))

                           موسى إسماعيل الفقي

 والحمد لله رب العالمين .

0 التعليقات:

إرسال تعليق