حلم شارع قام

حلم شارع قام

بقلم / موسى إسماعيل الفقي
         كعادتي استيقظت لصلاة الفجر ، وكنت أعاني من وعكة صحية جعلتني أكثر كسلاً  ، غادرتُ الفِراشَ وتوضأتُ .. أُذنَ للإقامة .. هرولتُ للمسجد على عجل.. كان الشارع مملوءًا بدخان يخنق الأنفاس ، نتيجة قيام بعض الجيران
بحرق القمامة .. يتكرر هذا رغم التحذير المستمر من خطورته ، ورغم ما تردده وسائل الإعلام ، ورغم الحديث عن أهمية نظافة البيئة من التلوث بكل أشكاله ، وكان السعال الشديد وضيق التنفس وأمراض الرئة وأوبئة أخرى خطيرة ولا حصر لها تنتشر بين سكان الشارع  ، لكن لا فائدة – إن الله سبحانه وتعالى خلق لنا هواء نظيفا مفلتراً – لكننا نصر على أن نلوثه بغبائنا ، وكنت دائما أحلم بهواء السحر ساعة الفجر حيث الأوزون العليل ( أو الأوكسجين الثلاثي الجزيئات ) – الذي حُرمنا منه في نهاراتنا بعد ارتفاع درجة حرارة الأرض واتساع ثقب الأوزون ،
***
 وكان الدخان قد سبقني إلى المسجد وغزاه ، وهاهم المصلون يتناوبون السعال فيما بينهم مما يحول دون استماع الآيات التي يتلوها إمامنا بصوته الرخيم ، وما إن سلم الإمام ،
 حتى قال الحاج / علي للإمام وهو غاضب : الدخان يملأ المسجد ، لا بد من حل – إننا نقتل أنفسنا بأيدينا ، من أين أتى هذا الدخان ، فبدا الامتعاض على وجه الحاج /عبد المنعم : يبدو أنه من مقلب القمامة القريب ، تعمل إيه للعيال ؟؟
 فقال الحاج صابر : لازم نعلم الأولاد الصغار ونؤكد عليهم ألا يحرقوا القمامة فهذا تدمير للصحة ،
قال الأستاذ/ عاطف : نريد حلاً عملياً – نريد أن يكون هذا عرفاً مثل أعرافنا الكثيرة ، والدين يقول : درء المفاسد خيرٌ من جلب المصالح ، وفي ديننا أيضاً : من رأى منكم منكراً فليغيره ..
– لكن الأستاذ/ أبو جودة ( بهدوئه المعهود ) لم يتكلم بل اكتفى بهز رأسه ومصمصة الشفاة ..
 فخرج الحاج / محمد عن صمته وقال في حدة : نجمع الكبار والصغار في الحي ونقول للكل : ممنوع منعاً باتاً حرق أي قمامة لأن ذلك يؤدي إلى أمراض خطيرة كالكبد والسرطان وغيرها ..
       قال أبو علي : وهل حرق القمامة هو الخطأ الوحيد في حياتنا ؟ هناك أشياء كثيرة يجب أن تصبح عرفاً لأن ذلك ضد الحياة وضد الحضارة ، وكل ما هو ضد الحياة فهو ضد الدين ..
    انتفض الحاج عبد المنعم من مكانه قائلا : قوموا من مكانكم ولنفعل ما هو أهم من الكلام – لقد جاء الدين لخدمة الحياة ، ولم تأتِ الحياة لخدمة الدين – هذا الدخان يدمر الوجود ويقضي على الحرث والنسل ، لما به من مواد ضارة ، وإنه يعود إلى الأرض في شكل أمطار كربونية تقتل الحرث والنسل وليست هذه رسالة المستخلفين في الأرض .. وإننا بأيدينا أن نفعل الكثير ..
***
    خرج إمام المسجد وحوله المصلون من أهل حارتنا ، وأنا بينهم أستغرب أن يتحركوا معاً ويقوموا قومة رجل واحد ، ثم ينطلق كل منهم إلى داره ويعود مسرعاً يحمل بين يديه إناءً به ماء حيث مقلب القمامة في نهاية شارعنا ويلقي على القمامة المشتعلة – وفي خلال أقل من عشر دقائق كان قد تم القضاء على مصدر الدخان وبدأ سكان الشارع يشعرون أنهم يتنفسون بعمق هواءً نقياً خالياً من الأمراض والأوبئة ،  
     ولم تنته المسألة عند هذا الحد – لقد رأيت في عيون الموجودين -  والإمام على رأسهم - إصراراً على استكمال المشوار ، لقد عاد الجميع إلى المسجد وراحوا يتشاورون في أمور كثيرة تشغل أهل الشارع – قال الحاج صابر : إن لعب الأطفال بالكرة فيه انتهاك  واعتداء صارخ على حق الشارع – فالشارع لحركة الناس وليس للعب الكرة ، إضافة إلى القلق الذي يسببه ذلك للسكان ونحن منهم – يجب أن يمنع ذلك ، وليكن لعب الكرة في أفنية المدارس ..
 وقد أقر الجميع بضرورة إلزام أبنائهم بذلك .. لأنه منظر غير حضاري ..
          المفاجئة أنه بعدها مباشرة كانت خطب الجمع التالية تدور حول نفس الموضوع ، حيث اقتربت لغة الخطاب الديني لتلامس واقعنا بشكل مباشر ، وقد أحسن الحاج عبد المنعم حين قال : إن الدين جاء لخدمة الحياة وليس العكس،وإن الله تعالى لم يفرض الصلاة لذاتها ، ولكن لتكون وسيلة وليست غاية ، فإذا تساءلنا عن أهمية الصلاة ؟ أهي حركات يؤديها المسلم ليصح بها بدنه ، لقلنا نعم إن فيها منافع للبدن ، ولكن ليس هذا هو الهدف الأهم من ورائها ، بل إن من ورائها أهدافاً أخرى ، فتوقيت الصلاة في مواعيدها ، تبرمج يوم المسلم وتضع له نظاماً فلا يكون يومه عشوائياً هلامياً ،وهي بذلك تدله على أهمية الوقت وتنظيمه ، ثم هي كذلك تستفز سكونه وكسله كلما طغى عليه شيء من ذلك ، فكأنها دعوة دائمة للحركة ، ثم هي تحثه على تنظيم أشيائه وأفكاره حين تدعوه في صلاة الجماعة إلى ( الوقوف في صفوف منتظمة ، فإن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج ) ، ثم إنك تستمع إلى آيات القرآن الكريم أو تقرأها فتدعوك إلى علاقات طيبة مع الناس وسلوك قويم.. والصلاة نعمة لما فيها من تدريب النفس على الطاعة والشكر وصلاح البدن ، والصوم نعمة لما فيه من حفظ البدن وتدريب النفس على العفة بمعانيها الواسعة ، والزكاة نعمة لما بها من تطهير المال والتكافل الاجتماعي بين الناس وتدريب النفس على بذل المال والنفس في سبيل الله ، فتهون الدنيا فلا تُعبد من دون الله ؛ ثم يكون دوام الأمن والسلام الاجتماعي ، ألا ترى معي أن الفقير إذ مُنع فلم يعط َ غضب وحنق وتمرد ، ثم تحول إلى عضو عليل يهدد المجتمع ويهز استقراره ،( وكل ذلك في خدمة الحياة ) ..  استيقظت فجأة من النوم على أذان الفجر ، وكان حلما جميلا  يا ليته كان  واقعاً ..!!                                              
تنويه  :  الأسماء الواردة في الحكاية ، أسماء متخيلة لأشخاص واقعيين موجودين في كل شارع من شوارع بلادنا – ولكن الفرق الوحيد بينهم ، أن الموجودين في الحلم قاموا وتغيروا ، لكن الموجودين في الواقع ما زالوا موتى ..!! مع شديد الحزن والأسف.

0 التعليقات:

إرسال تعليق