قصــة : تجليـــات طــائــرة



تجليـّــات طــائــرة
بقلم / موسى إسماعيل الفقي
انتهيتُ الآن فقط ، من صناعة الطائرة الورقية تلبيةً لرغبة طفلتي الصغيرة ؛ لقد  حدثتني عن ذلك كثيرا ؛ رغبتها في أن أصنع لها طائرة ورقية كالتي شاهدتها لدي أقرانها من الجيران ، ولم يكن مسألة تلبية رغباتها في مثل تلك الأمور  باليسير علي نفسي , ربما لأني ملولٌ جداً ،  هذا عيبٌ أعرفه في نفسي ، وإن كنت لم أعترف به أو أجاهر  به أمام أحد من قبل حتى زوجتي، ولماذا أعترف بذلك ؟، فكل تصرفاتي
تقول ذلك وتؤكده بشكل أو بآخر !! وليس لدي تبرير منطقي لذلك ,  ولربما كان سر  ذلك أن طفولتي لم تكن سعيدة.. وهذا مؤكد  لا يحتاج  إلي مثل هذه اللفظة" ربما " , ذلك أني أعتبر أن المشاركة في مثل هذه الأعمال التافهة.. أراني قلت "التافهة" دون قصد مني , وهذا تعبير عما تحسه نفسي تجاه هذه الألعاب والملاهي الصبيانية .. إنها مضيعة للوقت والجهد , وكثيراً ما أعدت مثل ذلك علي مسامع أبنائي الصغار , وموبخا  علي هذه التفاهات  التي يضيع فيها وقتهم , وقد يكون ذلك رأيي - أيضا – في أشياء كثيرة يتعاطاها  كبار الشباب مثل الإنشغال بالهوايات المختلفة والرياضات التي تضيع الوقت والجهد هباءً ؛ بالطبع : حينما أتكلم في ذلك فإنما  أقصد الإسراف  في هذه الهوايات أو أنها تُعطي من الإهتمام مالا  تستحق  ، وربما يكون مصدر ذلك عندي ، أن الإنسان يجب أن يكون متوازناً في كل أمور حياته, فلا تغلب ناحيةٌ  ناحيةً أخري , أو لا تصرع هوايةٌ مادونها من حاجات الإنسان ، أو  لا تقتل  غريزة إحدى أخواتها من غرائز النفس البشرية ....  هذا دائماً  ما أراني  أؤمن به ، ولكنني لا أفعله ،  فقد أعتقدُ  في جدوى قيم  وأفعال كثيرة , ورغم ذلك لا أراني ناجحا في تعاطيها  أو  مداوما عليها بشكل يؤكد ذلك الإيمان ؛ فقد أحب أن أفعل شيئاً ما , لكني لا أجد من نفسي إلا تناوما وتجاهلا وإغضاءً تجاه القيام به , فقد أعتقد أن عيادتي لصديقٍ  عمل محترمٌ  لابد من شحذ الهمم له, لكن شيئا خفياً  يحدث بالكسل والتراجع , من أجل التقوقع والانطواء وأمور أخري ليست بذات أهمية ..  وكأن الواحد منا يسكنه شخصان متناقضان متناحران ؛ شخص يعتقد وشخص آخر يفعل , وبأسلوب آخر : شخص يملك أن يعتقد أو لا يعتقد ؛  وآخر يملك أن يفعل أو  لا يفعل ؛  فهما مختلفان دائماً , فحين يعتقد هذا ؛فإن ذلك لا يفعل ,وإذا كان الأول غير معتقد , فإن الآخر يفعل , وهذه الحرب التي حكم علي النفس أن تصطليها  دائمة الاحتدام  بين كائنات عديدة مجهولة ولديها من الأسلحة المختلفة مالم تصل إليها كل الترسانات العسكرية الحديثة حتى مطلع القرن الحادي والعشرين ,  وربما بعد ذلك . 
     وحتى لا أنسي فبالنسبة لتوبيخي لأطفالي , فقد كان ذلك يصيبني بشيءٍ من التوتر ، وحينما أفكر بالأمر  يبدو لي حقهم في شيء من اللهو  والصخب والانطلاق مثل كل الأطفال ، وكنتُ أخشي أن يصيبهم من أفعالي تلك , شروخ نفسية تؤثر في تكوينهم  وعطائهم ؛ ولذا فقد كنتُ – متي صدرت مني أية حماقة من حماقاتي تلك نحوهم – أسرعت  بالإفراط في تدليلهم  والإغداق عليهم  بالهدايا والتصريح لهم بساعات من اللهو والهرج ، وربما شاركتهم في ذلك الصخب الصبياني الهمجي ، محاولا بذلك أن أمحو  من ذاكرة نفوسهم  الغضة ما قد  تعلق بها من إساءاتي في حال غضبي..
     نسيتُ طائرة الأولاد ورحتُ أحدثكم عن أشياء ربما لا تحفلون بها كثيراً  ؛ ولكن .. ما هذا السخف ؟ , هل تحفلون - حقا – بحديث عن طائرة الأولاد الورقية ؟  لا أظن – أيضاً – أنكم تهتمون بشيءٍ من ذلك , فهل لديكم شيءٌ مهم ٌ  حقاً ؟؟ فكلكم  يضيع وقته فيما لا يفيد , بدءاً من لحظة صرخته الأولي وحتى  يواري التراب , .. وبعيداً عن هذا الجدل العقيم ( ليس لدي شكٌ في أن رؤوسكم  تكاد تنفجر من كثرة ما ابتلعت في جوفها من ذلك الجدل.. أو  الكذب , فكلكم يكذب علي غيره كما يكذب علي نفسه لكي يحصل علي قوت أفضل وحياةٍ أرغد , كي ينثني من بعدها يباهي الآخرين بفضل قُوتهِ ورغد حياته؛ عفواً.. أردت أن أقول : ليباهي الآخرين بكذبه و مكرِه و قوةِ حيلتِه..أو  لكي يؤكد لنفسه أن لوجوده قيمة في هذا العالم   ...ولربما حدثته نفسه بأهمية وجوده ؛ فلولاه ربما تغير مجري التاريخ أو انهارت الكرة الأرضية) ! ! .. ورغم تقريعي الدائم لكم , فإنني أضمن أنكم سوف تصيخون السمع حتى النهاية .. 
   ضاعت بضع ساعة في عمل الطائرة الورقية , كما تضيع أيام وسنوات فيما لا يجدي , وكما ضاعت حيوات الملايين من السابقين واللاحقين في لامعني الحياة والأحياء , ومثلما ستضيع حياة الذين يلونهم  في عبث المعني ومعني العبث.!!
    كنتُ قد بدأت العمل الفعلي في مشــروع الطائرة الورقية , بما تبقي لديّ من طاقة نفسيةٍ واستعداد يزداد فتوراً بمرور الوقت , حتى أضحي ما لدي من هذه الطاقة  وذاك الإستعداد ما يكفي - بالكاد - لصناعة طائرة ورقية أقل من متواضعة , فقبل أيام , وحين وعدت طفلتي : بأنني سوف أعد نفسي وأهيئها لصناعة طائرة ورقية غاية في الجمال والأناقة في الألوان , والدقة في القياسات , والمتانة في الخيط , كان لدي بالفعل تصور  يعد خيالياً ,  إذا  قيس  بما تم إنجازه , ولستُ  أدري أين تسربت كل هذه التصورات , وتلك الرؤى المشحونة بالاستعداد  ؟؟ ..  وأية شياطين تلك التي حاضت هذه الأفكار حتى أصبحت أقرب إلي التحقق ؟؟ و أية شـياطين تلك التي انتهبتها تحت سنابك الساعات الجامحة؟؟.
      لستُ  أدري ما هي  العلاقة بين الخيل والخيال ؛ إن  مادتهما اللغوية واحدة ؛ وهذه وحدها  تكفي للتأكيد علي وجود علاقات أخري.. آسف , هذا ليس درسا في اللغة , وإن كنتم في حاجة إلي دروس في اللغة وفي سواها ,  لكن هنا ليس المكان الملائم ...  علي كل حال , فإن الخيل والخيال ؛ كلاهما  يجمحان , الأول علي أرض الواقع المنظور, والثاني  علي أرض اللامرئي ,  وهذا يعني : أنه ليس كل     لا مرئي  غير موجود ,  فهناك كثير من اللامرئيات  ثبت  بالبراهين الرياضية تحققها , , وهناك – أيضا – عوالم لا نراها , لكنها موجودة ؛ إما لأنها بعيدة مثل بعض النجوم والكواكب السيارة في الفضاء الواسع , وإما لأنها صغيرة مثل الفيروسات , فتري بوسائل أخري تعين العين البشرية علي رؤيتها , وإما أن تكون بحاجة إلي سمو  روحي معين لبلوغ معناها , ومن ثم مبناها : أي نقل هذا الجسم البشري , من حالة إلي حالةٍ مختلفةٍ وذلك باجتهادات معينة -  لعلكم تعرفون شيئا من ذلك عند بعض المتصوفة , فقد  بلغوا بالسمو  الروحي مناطق لم تكن مأهولة , كذلك بعض الرياضات الروحية ,  حين تكشف للجسم عن طاقات لم  يكن يدركها قبل ذلك  ...  المهم من هذا كله أن الخيال الذي تحقق للرؤي في أول الأمر ؛  أقصد :أول التفكير  في صناعة طائرة ورقية علي شكل معين , كان كأنه واقع ! , فكيف تحول هذا  أل ( كأنه واقع) بعد عدة ساعات  إلي:  واقعٍ  مختلفٍ  تماماً ؟؟ , أهذا التقادم الزمني كان سبباً  في هذا التغيير ؟ ,  تري  من أي جانب كان ؟؟  سؤال أطرحه وأبحث  له أيضاً عن إجابة ... أهو  التقادم الزمني أصاب طراوة الخيال ونعومته  فتبخر  جلّه ؟ .. كمثل  القصيد  يتبخر من رأس الشاعر  إذا  لم يسرع  بقيده بالحبر ؟  أم  الخيال  الأقرب  إلي الواقع , بحاجة إلي سمو الروح والمادة لبلوغه ؟ , أم  أن التقادم  الزمني أصاب الملكات الذهنية  فقصرت  , بالتالي ,  بقية الأعضاء  عن القيام بما يمكن القيام به لإنجاز  ما رفرفت  به بنود الخيال في  نسيم الوعد الأبوي – المهم  أن أثر التقادم الزمني في النفوس – علي ما يبدو – قديم قدم الدهر  .. فمن القدامى كان أبو تمام- علي ما أظن- يري رأيا  يقول بضرورة كمال الأشــياء:                  ولم أر  في عيوب الناس عيباً  .:.  كنقص القادرين علي التمام  ِ                    
 ولكن بعض المعاصرين من شعرائنا أظنّه – إيليا أبا ماضي- يريحنا ويريح نفسه من عناء التفكير :
 أنا من قوم ٍ إذا حزنوا     ..     جعلوا من حزنهم طربا   
 وإذا ما غايةٌ صعُبـــتْ       ..     هونوا بالترك ما صعبــا
 وهي صورة للواقع المعاش أو الممكن كما قال أجدادنا
                              ( ما كان بالإمكان، أفضل مما كان)
**حملت أنا وابنتي الطائرة الو رقية وملحقاتها، وفي نفسي ضيق لا يخفي  سببه , ولكن ما يخفف  بعض هذا الضيق أنها  تؤدي الغرض – أقصد الطائرة – وتلبي للصغيرة رغبتها , لكن الطفلة لم تكن ملامحها تنبيء عن سعادة  ,  وقد بدأت منذ اللحظات الأولي لمحاولات تطيير  الطائرة ,  تنقّل  عينيها هنا  وهناك , حيث كانت تتصيد الفروق الواضحة  والكثيرة  بين  طائرتنا  والطائرات  الأخرى التي يملك زمامها أقرانها  غربي النهر  , إلي  ذلك أن طائرتنا لم تنجح , وأخفقت في الصمود من البداية , وراحت تناطح الفضاء هبوطاً ودوراناً إلي أسفل كلما هبت ريح  لينة , وكأنها  تثبت لنا قانون الجاذبية ! .
     أخفقت الطائرة مرات ومرات .. وفشلت كل محاولاتنا في إطلاقها , رغم  التعديل الدائم في موازينها ,  وذيلها , وكل ما يجعلها تحقق شيئاً من التعلق بأحضان الريح في عصاري  شهر  أغسطس ... أخفقت كما أخفق  الخيال في التحقق  علي أرض الواقع ..  وطار  هو  ,  ولكنها هي لم  تطــر ! .
      كنت قد بدأت ألحظ الخيبة ترتسم  علي وجه صغيرتي  البريء , وإشفاقا  مني  رحت أداعبها  كي أنزع عن محياها  القناع الحزين , ورحت أخاطب الطائرة المسكينة كما يخاطب المهرجُ  الدمى  في مسرح العرائس , ثم  رحت  أؤكد لها  أن هناك  شيئا  ما , خطأ في تنفيذ الطائرة , وأن هذا الخطأ غير المقصود ـ بالطبع ـ سببه أنني نسيت الطريقةَ التي  كانوا قديماً  يعملون  بها الطائرات  , وأن الأجداد  كانوا  أجود  لصناعاتهم  ,  وكان لديهم من الخامات , ما نعجز  عنه  اليوم , وكان لديهم  من الإرادة ما ليس  لنا اليوم , وأن أحد أجدادي من العرب الكرام  هو "عباس  بن فرناس" أول من حاول الطيران بجسده , وربما  لأنني تقدمت بي السن , أو  بالأحرى  لأنني لم أشارك في طفولتي بمثل هذه الأعمال التي احتفل  بها أقراني في طفولتهم , وربما لم  أكن  حاذقاً في عمل مثل هذه الأشياء , أو  ربما وأظن ذلك من المؤكد , لم  أكن ممن  يشغل نفسه  بعمل طائرة ورقية , فقد كانت علي ما أذكر لي هموم  أخري  كالعمل ـ مكرها ـ مع أبي  في الحقل ,والقراءة في  مختلف  الاتجاهات , وإن لم  تكن  طمست  ذاكرتي ـ فأنا سريع النسيان , وأذكر أن خلافاتي مع أصحابي كانت بسبب النسيان , علي كلّ ٍ  ..  فإن النسيان ـ في معظم الأوقات ـ نعمةٌ كما يقولون .   
      كان النهار في نهاياته الحزينة، وكأنما يهيئ النفس لليل حالك طويل ،  وأنا  أحاول أن أسرِّي عن ابنتي بعضاً  مما عراها  من كدر  حين فشلنا  في إطلاق طائرتنا  ، وكنت  قد بالغت  في الشرح والإسهاب مما أصابني  بإجهاد , فجلست  علي سطح  البيت الخرساني وجلست هي إلي جانبي وقد  اتكأت علي ساقيّ وراحت تتأمل السماء الخاوية إلا من طائرا ت الجيران غربي النهر   .
سرس الليان في  10/3/1997م

0 التعليقات:

إرسال تعليق