أخلاق العبيد
بقلم / موسى إسماعيل الفقي
- السيد الشاعر أبو الطيب المتنبي ( رحمه الله 303هـ - 354هـ / 914 - 965 م يسير في أسواق بغداد في صباه ، يمر بصاحب دكان يبيع الفاكهة، فتعجبه خمسة من البطيخ ، فيسأله عن ثمنها ، فيقول له في غير اهتمام : اذهب، هذا ليس من أكلك - تماسك أبو الطيب وقال : دع ما يغيظ واطلب الثمن، فقال البائع :ثمنها عشرة دراهم ، فقال له : بل هي بخمسة دراهم وناوله إياها، فلم يقبل البائع ، وإذا بشيخ من التجار ذاهباً إلى داره، فوثب إليه صاحب البطيخ من دكانه، ودعا له ، وقال له: يا مولاي، هذا بطيخ باكور، لو تسمح لي أحمله إلى منزلك يا مولاي - فقال الشيخ: ويحك بكم هذا؟ قال: بخمسة دراهم فقط . فقال: بل بدرهمين . فباعه الخمسة بدرهمين، وحملها إلى داره، ودعا له، وعاد إلى دكانه مسروراً بما فعل ، فقال له أبو الطيب : يا هذا، ما رأيت أعجب من جهلك ، أعطيتك في ثمنه خمسة دراهم ، فبعته بدرهمين محمولاً . فقال: اسكت ، هذا يملك مائة ألف دينار !!
****
هذه ثقافة شرقية حمقاء لا تزال تفعل فينا أفاعيلها المخزية ، تهليل أعمى للغنى والأغنياء ، وتقدير لمجرد مرأى أصحاب الدراهم يمرون منتفخي الأوداج والجيوب ؛ تهليل تسقط معه القيمة وتداس في طريقه الأخلاق والمعاني النبيلة ، تقدير للمظهر الأجوف والوجاهة الاجتماعية الخرقاء ، إنها ثقافة ( امشي معرش ولا تمشي مكرش ) فالناس لا تحترم إلا أصحاب الدراهم ، ليس مهماً كيف جُمعت ، المهم (معه فلوس) ، فالدراهم تفتح الطرق المغلقة ، والأبهة تخرق جدران الصمت ، تملأ الناس بالرهبة والانبهار وتعمي الأبصار ، تهدم القوانين على رؤوس مشرعيها ، تغير الألوان وتبدل الأكوان ، وتحتقر البسيط لأنه بسيط وإن خبأ تحته نقاء المعدن وطاهر القيمة ، وتقهر المعدم والعاجز في غير مرحمة .
****
- إنها ثقافة تحرم الفقير من أن يتنفس هواء كالناس ، تقول له في تحدٍ سافر : لا مكان لك هنا ، اغرب بعيدا عن وجهي ، فأنتَ زائد عن الحاجة ؛ اختبأ حتى تموت فهذا يكفيك ، وتحرمه من أن يشارك القوم حتى فتات الموائد حين تصرح في قاموسها القميء : « أطعم مطعوم ولا تطعم محروم » وكان أولى بها أن تحض على إطعام المحروم ، وبالتالي فهي تحرم المجتمع أن يتكافل ويتراحم من غير شفقة وازدراء ، وتحرم المجتمع مواهب تدفن في زحمة الأضواء وترهات الفخامة ومعمعات البلاهة ، وقيماً تذبل في صحراء الحرمان ، إنها ثقافة تدفع للتنافس على جمع المال بكل السبل ، وعلى البخل مهما تكن النتائج ، إنها ثقافة تحض على التباغض والتحاسد ، ثقافة تدفع لتدمير الحضارة ، لأنها غيبت العدالة ، حين تميل لصاحب المال على حساب الفقير والعاجز ، وتكرم الموسر وتبخل على المعدم ، انحيازاً لقلة من الأغنياء ، وهذا أخطر ما تمدنا به هذه الثقافات .
ومما يؤسف له أنني حضرتُ إحدى الحفلات المدرسية فخرجت تلميذة من أبناء الفقراء لتلقي كلمة ضمن فعاليات الحفل ، فعلقت إحدى المعلمات قائلة : ( حتى انتِ يا فلانة – ياللا من نفسها .. ) ، على مرأى ومسمع من الحضور الذين لم يأبهوا لسخريتها ..!! وكأن أبناء الفقراء ليس من حقهم أن يشاركوا المجتمع ..
****
وقد جاءت الديانات السماوية وحاربت هذه الآفات والعادات البغيضة ، إلا أن أقواما مازالوا يصرون عليها مرددين : هذا ما وجدنا عليه آباءنا ، ولعل هذا ما دفع السيد الشاعر أبا الطيب – فيما بعد – على أن يقول :
فلا مجدَ في الدنيا لمنْ قَلَّ مالُـه :: ولا مالَ في الدنيا لمن قلَّ مَجْدُهُ
من قصيدته التي مطلعها :
أودُّ مِـنَ الأيـــام مـا لا تَـــوَدُّهُ :: وأشكو إليها بينَها وَهْيَ جُنْــدُهُ
****
0 التعليقات:
إرسال تعليق