نزف شارع نصف ميت 1-3


نص أدبي :  نزف شارع نصف ميت 1-3

بقلم / موسى إسماعيل الفقي



    - سبعمائة وخمسون متراً أقطعها هرولة أو عدواً من بيتي إلى محل عملي كل صباح ، ومثلها بعد الظهيرة عائداً.. ، أعشق المشي ولا أستبدله بوسيلة أخرى إلا نادراً، وبحسابات بسيطة ؛ توصلت لتحديد المسافة لتكون أقرب إلى الدقة ، فكل شيء في حياة الإنسان يجب أن يحسب بدقة ؛ من أول مواعيد قص الأظافر وما يستغرقه ذلك إلى أعظم شئون الحياة .. هذه الهرولة الصباحية والمسائية بمثابة خلخلة للجسد على إثرها يتصبب عرقاً؛ للتخلص من فضلات الخلايا ، يصاحب ذلك بساطة مظهر ؛ وتواضعٌ عفويٌّ ، وفرارٌ وانكسار ..  



- يوسوس شيطاني
انظر لأعلى ..
 تحدى باتجاه المدى ..
 قاوم شعور البساطة واللعثمة .. 
 تجاوز سبيل الملائكة المستوحدين .. 
وكشر عن النابِ واشهر سلاحك .. ،

- فأزجره وأهمس
كن خاشعاً كالثرى .. 
بسيطاً كمخلاةِ مسكين ٍ.. 
رقيقاً كهمس الفراشة للسوسنة .. 
وسلم جناحيك للصمت واسكن جراحك .

***    

  .. فتياتٌ تسد عليك الطريق في صلف .. تنازل واجتنب سبيلهن ..انحرف لأقصى اليسار إرضاء لغرورهن ، وأكوام من القمامة.. لا بأس ، الانحرافات المتكررة تزيد المسافة بضعة أمتار ؛ فائدة مضافة .. في هذا المكان قابلت [ ... ] ، لماذا أتذكر المكان فقط  !؟ عامل النظافة يجلس على يسار الطريق يتلصص ولا يعمل شيئاً ، وقبل نهاية الشهر ألقاه في « وحدة الخزينة » يقبض راتبه الحلال !!  لو أستطيع نهرته وضربته ( عضو فاسد يستحق البتر ) .. ، شاب مهووس يكاد يدهسك بدراجته النارية .. انحرف لأقصى اليمين .. صبي يرش الشارع بخرطوم المياه .. ماذا لو حلقتَ في السماء متجاوزاً الماء الطائر رداً على تهديد الصبي المخرطم ..! خيالٌ لا يناسب رجلا ستينياً مثلك . إذن . انحرف أكثر .. تنظر إليه ، يرد النظرة بأشرس منها : «هو كان شارع أبوك ..!!» ليس من المناسب - والحال كذلك - أن تنهاه عن الإسراف في الماء .. عمال النظافة حول المقطورة مشغولون بالتقاط ما يصلح من القمامة وتصنيفه ؛ هذا بلاستيك .. ذاك خشب .. وهنا صاج ، ويتركون ما لا يصلح ( تحولوا إلى تجار خردة ) ، ونظافة الشارع ؛ انسَ .. أين المتابعة !! ؟؟
***
    أمام شارع جانبي ، تبرق ذكرى مؤلمة : أراك مصلوباً - هناك - على أحد أعمدة الكهرباء على يد واحدٍ من إخوانك « الأعزاء !» ، كان يتسلق على ركام القمامة ليعلو ويعلو ، ثم يجلدك بسياط الخزي والعار والهزيمة .. لماذا لم يرحمك ؟؟ المعنى في بطن القاتل .. ( إذا اكتشف « بعض أصحابنا الصامتين » ذات يوم - عمق الجراح ؛ فلربما شاركوني النواح .. ؛ فليعذروني ) رحم الله « المعري» فهو القائل : « وزهدني في الخلق معرفتي بهم :: وعلمي أن العالمين هباءُ » ..       
        (( ملحوظة)): مازال المقتول مصلوباً تأكل منه الغربان الصديقة والطيور الجائعة ..!
***
     -  صباح الخير يا أستاذ  - توقفت على حافة الصوت. أهلاً  أحمد باشا .. إنها تحية الصديق  « أحمد شرشر » ، وعلى طريقة أفلام «الأكشن» يقفز « شرشر» باتجاهي مبتسماً يمد يده ويضغط على يدي في مودة وحميمية ؛ ثم يودع مع وعدٍ بلقاء لا يتم .. إنه يتكلم دائما بمنطق السوق ويجاري زبائنه ؛ لكن قلبه متصوف عجوز .. وصلت إلى محل عملي ، صباح الخير يا سرحان ، يجيء صوت العامل متناوماً : « صباح الخير يا بيه» .. حوار حول ترشيد استهلاك المياه يبدأ من مكة وينتهي في حارة «حسب اللا بعضشي» .. أسقط رويداً رويداً في أنفاق« سرحان عبد الباسط » المتشابكة ..أداري غيظي .. أحصن نفسي بأسوارٍ من طين الفلسفة وعجينة الأديان.. يفر إلى الجهالة قانعاً .. سرحان ليس واحداً ولكنه بضع وخمسون .. فكل ساعة تجد واحداً مختلفاً تماماً ( وانت وحظك ) نعم : إنه طيب القلب ، وكل البشر كذلك ، المشكلة إذن في الشياطين ؛ أقبل الهذيان مؤقتاً لعله يؤدي إلى قليل من الأمل في الخروج من المتاهة ..أو إلى غرس قيمة .. أخرج صفر اليدين .. فليعلن العقل إفلاسه ..
***
 يتكرر نفس المشهد كل يوم تقريباً .. لا تندم .. لقد اخترت أن تكون مثالياً ، والبناء يحتاج إلى صبر .. لا بد من وصول إلى المستحيل .. أمسح مكتبي وأبدأ يومي  .. كل شيء حواليك يدعو للأسى ، وهناك شبه اتفاق على عدم الاتفاق على أي شيء .. والنزوات ، والمصالح على حساب المبادئ تؤدي إلى الهلاك : « مشي حالك وكبر دماغك » .. بهذا ينصحك «العقلاء» ؛ وكما يرددون : حبال المودة كاذبة .. يصل بقية الزملاء .. حوارات تأكل لحم الوقت وتصدح في المسموح .. والجراح معلقة بسماء رمادية .. أين صوتي ؛ لماذا يتآمر علىّ  ؟؟
 يصل « أ/ محمد العادلي » رئيس المجلس وادعاً كعادته ؛ يتحنن .. يؤاخي ويتواصل .. يخمش فقاعات الأسى بأطراف أصابعه - في هدوءٍ - ثم يمضي .. ، وبين ضلوعي بعض الملفات نازفة ، وبعضها يلفظ آخر أنفاسه ، وبعضها رماد دماء قديمة .. فليعلن القلب أحزانه ..
***
    يزيد عليها خمس وسبعون متراً بين المجلسين صعوداً للسلم وهبوطاً لإنهاء بعض الأعمال والمصالح، ولابد من القفز في الصعود حتى أتجاوز وجع غضاريف الركبتين ... بعضهم يسد عليك الطريق في بلاهة ..هل نعلم أولادنا  شيئاً من هذه السلوكيات .. «أ/ نبيل الشبراوي»  مستغرق في استجلاء ما بين يديه ، واستدراكاته لا تمل .. أربعون درجة سلم تقريباً ؛ ربما تقل هذه المسافة مستقبلاً بعد رحيل زميلنا منير شديد ( رحمه الله ) – ثم أضف إليها عشرة أمتار للحمام ذهاباً وإياباً ،
***
 ومائة متر للمسجد المقابل لصلاة الظهر ، صنابير المياه كشلالات نياجرا .. العقل يقول هذا إسراف وسفه.. جرائم ترتكب صباح مساء ... لم أر من يصرخ في أحدهم : إن ما تفعله جريمة ، يفتح الماء ويقف يشمر عن ساعديه ثم ساقيه ويخلع نظارته ، والماء كالشلال يصب في بيارات المجاري ( ثروات مهدرة ) ـ هل هذا معقول ؟؟- هل يصغي إخواننا لصوت العقل ؟؟ - بعد السلام على من حولي أفتح الصنبور على خيط رفيع من الماء .. أبدأ في الوضوء.. أغلقه أكثر ليصبح قطرات عند مسح الرأس والأذنين ( أشعر أني أعبد الله - حقاً - حين أرحم الماء ) وأغلقه تماماً حتى أشمر عن ساقيّ .. أفتح قليلاً  .. قليل من الماء يكفي لوضوءٍ.. أقول لصاحبي : أغلق الماء قليلاً وابدأ مباشرة بغسل كفيك ، يبدأ بغسل قدميه أولاً قائلاً : أنا لم أنو ِ !! – ولماذا غسل قدميك أولا إذا كنت ستغسلهما آخراً – لا يرد ..  « الميه من بحر ميت .. والدفع من خزنة ميري» ؛ هكذا قال مولانا « بيرم » رضي الله عنه ، التحية واجبة للزميل/ يحيى ندا  ؛ لأدبه وتحضره في التعامل مع الماء ..
***
     الإمام يصر على أن يستخدم ميكروفون في الصلاة رغم أن خلفه صفوفاً ثلاثة وصوته ( حفظه الله ) وافر الطبقات ، يقول العقل لا حاجة لمكبر صوت ، هل يصغي لصوت العقل ؟؟ ألا يكفي ما نحن فيه من صراخ وعويل !!، يبالغ بعض إخواننا في تجويد هيئة الصلاة ، لكنهم يفرطون في تجويد هيئة الحياة !! إنما فرضت لإصلاح الحياة .. يبالغ جاراي بالصف في إلصاق القدم بالقدم .. لكن ذلك لا يؤثر على تباعد القلوب !! 
 هل تحتاج المسألة إلى حسابات – نعم .. إن تقدم أي مجتمع يتوقف على قدرته في حساب كل شيء .  ،   
     ومائتين وخمسين متراً إلى الصيدلية شهرياً  مرة أو مرتين لسداد بعض أقساط الدواء .. عضو فاسد يقذف بقاذوراته في مياه النهر ؛ وآخرون على المقهى  ببقايا سجائرهم  وآخر بنخامته (الكرباج هو الحل ؛ رحمة بالنهر الذي يعطينا الحياة) ، ومائتين وخمسين متراً للحاج / جمال راضي (الترزي) ؛ إنه مجامل فوق العادة : كيف حالك يا باشا !!.. إنه يبالغ في الترحيب بزبائنه (تاجر شاطر).. كما أسعد – هناك - برؤية أستاذي الحاج / محمد االمعاز ( أعزه الله ).. 
***
     وبضعة أمتار أيام الآحاد تجوالاً بين الصالة والمكتب ، ومائتا متر  حركة داخل المنزل أو في استقبال صديق ، وزد على ذلك رحلة القاهرة كل أسبوع بها حوالي 2 كيلومتر عدواً ؛ ( لا تنس القار والتراب والدخان العائد معك ) ، وبين المنزل والمسجد المجاور لباقي الصلوات ثلاثمائة متراً ، هكذا شاء القدر أن يكون السير في حياتك مقنناً بمقدار ، تحب السكون والاختفاء وتكره الأضواء .. هل تخشى على صوتك من الضياع في الزحام ..؟؟ أم هو انسحاب وفرار من الحياة ..؟؟ ، 
***
    والهرولة لا تكاد تنتهي إلا لتبدأ ، ربما لولا اتهام البعض لك بالجنون ؛ لتحولت الهرولة إلى العدو السريع ، ثم ها أنت تهرول وتهرول ،  ولكن .. كم من المسافات يقطعها الضمير هرولة أو عدواً أو تطيرها النفس شعاعاً عند كل كبوة أو انطواءة أو عند كل طعنة غادرة تجيئك من «صديق حميم» ، فحين يهجع الجسد وتهدأ الأنفاس ، تبدأ كائنات أخرى بالسياحة في عالم الضمير ؛  وكم من مرة غضضت البصر عن تجاوزات في دروب الحياة .. فإلى متى ..؟؟
    في المساء تعود أدراجك ؛ بين جنبيك نزف وطيف احتضار ، ركام مر عليك من الناس وركام من الهوس والخبل ، وركام من ... ، تفر إلى خلوتك ، تغسل أعضاءك من ركام البشر .. ركام المسافات .. هل رأيت ..؟؟  لا أحد .. 
        « إني لأفتح عيني حين أفتحها :: على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا» ..
[ وادعاً كنتَ .. 
مضيئاً بأحلامها البينات .. 
تقدم ملح الأخوة فوق الذهب ..
وتشتاق للعاشقين وتبلع مرّ السغب ..
 أيها الحزن الذي رافقني طويلاً .. 
ودع حصارك الجليل .. 
ونم كثيراً.. 
واسأل الموت أن يجيء عاجلا .. ]
                                                            ****

0 التعليقات:

إرسال تعليق